فصل: تفسير الآية رقم (97):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (95- 96):

{إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (95) فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (96)}
قلت: {ومُخرج}: معطوف على {فالق}، على المختار؛ لأنَّ {يُخرج الحي} واقع موقع البيان له، و{سكنًا}: مفعول بفعل محذوف، أي: جعله سكنًا، إلا أن يريد بجاعل: الاستمرار، فحينئذٍ ينصب المفعول.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {إن الله فالق الحب والنوى} أي: يفلق الحب تحت الأرض لخروج النبات منها، ويفلق النوى لخروج الشجر منها، {يُخرج الحي} أي: كل ما ينمو من الحيوان والنبات؛ ليطابق ما قبله، {من الميت} مما لا ينمو كالنطف والحب. {ومُخرِج الميت من الحي} أي: ومخرج الحب والنُّطَف من الحي، {ذلكم الله} أي: ذلكم المخرج والمحيي المُميت هو الله المستحق للعبادة دون غيره، {فأَنَّى تُؤفكون}؛ تُصرفون عنه إلى غيره.
{فالق الإصباح} أي: شاقّ عَمُود النهار عن ظُلمة الليل، {وجاعل الليل سكنًا} أي: يُسكن فيه من تَعَب النهار للاستراحة، {و} جعل {الشمس والقمر حُسبانًا} أي: على أدوار مختلفة، يُعلم بها حساب الأزمنة والليل والنهار، أو حُسبانًا كحسبان الرَّحا يدور بهما الفلك دورة بين الليل والنهار، {ذلك} التسيير بالحساب المعلوم، هو {تقدير العزيز العليم} الذي قهرهما بعزته، وسيرهما على ذلك السير البديع بعلمه وحكمته.
الإشارة: إذا أحب الله عبدًا فلق حبة قلبه بعشقه ومحبته، وفلق نواة عقله بالتبصر في عجائب قدرته، فلا يزال قلبُه يميل إلى حضرته، وعقلُه يتشعشع أنواره بازدياد تفكره في عجائب عظمته، حتى تُشرق عليها شمس العرفان، فيفلق عمود فجرها عن ظلمة ليل وجود الإنسان، فيصير حيًّا بمعرفته، بعد أن كان ميتًا بجهله وغفلته، فيميته عن شهود نفسه، ثم يُحييه بشهود ذاته، يُخرج الحيّ من الميت ومخرج الميت من الحي، جاعل ليل العبودية سكنًا، وشمس العرفان وقمر الإيمان حسبانًا، تدور الفكرة بأنوارهما، كما يدور الفلك بالشمس والقمر الحِسيِّين ذلك تقدير العزيز العليم.

.تفسير الآية رقم (97):

{وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (97)}
يقول الحقّ جلّ جلاله: {وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها} أي: ببعضها {في ظلمات البر والبحر} أي: في ظلمات الليل في البر والبحر، وأضاف الظلمات إليهما؛ لملابستها بهما، أول في مشتبهات الطرق في البر والبحر، وسماها ظلمات على الاستعارة، {قد فصلنا الآيات}؛ بيناها {لقوم يعلمون} فإنهم المنتفعون بها.
الإشارة: جعل الحق جل جلاله نجوم العلم يهتدي السائرون بها في مشكلات أمور الشريعة وأمور الحقيقة، فلبر الشريعة علم يسير به أهلُه إلى جنته ورضوانه، ولبحر الحقيقة علم يسير به أهلها الطالبون لها إلى معرفة ذاته وصفاته، وشهودها في حال جلاله وجماله، ولله در المجذوب رضي الله عنه، حيث قال:
العلم مرايا من هند ** والجهل صندوق راشي

من لا قرايش يعرف الله ** ما هو مبني على شي

.تفسير الآية رقم (98):

{وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (98)}
قلت: من قرأ (مستقر) بفتح القاف، فمصدر، أو اسم مكان ومن قرأه بالكسر، فاسم فاعل، وعلى كل هو مبتدأ، حذف خبره؛ الجار والمجرور، أي: لكم مستقر.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة} آدم عليه السلام {فمستقر ومستودع} أي: فلكم استقرار في الأصلاب أو فوق الأرض، واستيداع في الأرحام أو تحت الأرض، أو موضع استقرار واستيداع فيهما، أو: فمنكم مُستَقِّر في الأصلاب أو في الأرض، أي: قارٌّ فيهما، ومنكم مستودَع في الأرحام أو تحت الأرض.
وقيل: الاستقرار: في الأرحام، والاستيداع: في الصلب، بدليل قوله: {وَنُقِرُّ في الأَرْحَامِ مَا نَشَآءُ} [الحَجّ: 5].
{قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون} أي: يفهمون دقائق أسرار القدرة، ذكر مع النجوم، {يعلمون}؛ لأن أمرها ظاهر، وذكر مع تخليق بني آدم؛ {يفقهون}؛ لأن إنشاءهم من نفس واحدة، وتصريفهم على أحوال مختلفة، دقيق يحتاج إلى زيادة تفهم وتدقيق نظر.
الإشارة: بعض الأرواح مستقرها الفناء في الذات، ومستودعها الفناء في الصفات، وهم العارفون من أهل الإحسان، وبعضها مستقرها الفناء في الصفات، ومستودعها الاستشراف على الفناء في الذات، وهم أهل الإيمان بالغيب.
وقال الورتجبي: بعض الأرواح مستقرها الصفات، ومستودعها الذات، بنعت البقاء في الصفات، والفناء في الذات، لأن القَدَم مُنزه أن يحل فيه الحدث. اهـ.

.تفسير الآية رقم (99):

{وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99)}
قلت: الضمير في {منه}: يعود على النبات، و{خَضِرًا}: نعت لمحذوف، أي: شيئًا خضرًا، و{قِنوَانٌ}: مبتدأ، و{من النخل}: خبر، و{مِن طَلعها}: بدل، والطَّلع: أول ما يخرج من التمر في أكمامه، والقنوان: جمع قنو، وهو العنقود من التمر، و{مُشتبهًا}: حال من الزيتون والرمان، أو من كل ما تقدم من النبات، و{جنات}: عطف على {نبات كل شيء}. و{ينعِهِ} أي: نضجه وطيبه، يقال: يَنَعتِ الثمرة، إذا أدركت وطابت.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {وهو الذي أنزل من السماء} أي: السحاب أو جانب السماء، {ماء فأخرجنا}، فيه الالتفات من الغيبة إلى التكلم، {به} أي: بذلك الماء، {نبات كل شيء} أي: نبت كل صنف من النبات على اختلاف أنواعه، فالماء واحد والزهر ألوان، {فأخرجنا منه} أي: من النبات، شيئًا {خَضِرًا} وهو ما يتولد من أصل النبات من الفراخ، {نُخرجُ منه} أي: من الخَضِر، {حبًّا مُترَاكبًا} وهو السنبل؛ لأن حبه بعضه فوق بعض، وكذلك الرمان والذرة وشبهها، {ومن النخل من طلعها قِنوانٌ دانية} أي: ويخرج من طلع النخل عناقيد متدانية مقريبة من المتناول، أو ملتفة، قريب بعضها من بعض، وإنما اقتصر على المتداني دون العالي؛ لزيادة النعمة والتمكن من النظر فيه، دون ضده.
{و} أخرجنا أيضًا بذلك الماء، {جناتٍ} أي: بساتين، {من أعناب} مختلفة الألوان والأصناف {و} أخرجنا به {الزيتونَ والرمانَ} على اختلاف أصنافها، {مُشتبِهًا وغير مُتشَابه} أي: من النبات والثمار ما يُشبه بعضه بعضًا، في اللون والطعم والصورة، ومنه ما لا يُشبه بعضُه بعضًا، وفي ذلك دليل قاطع على الصانع المختار القدير العليم المريد، ولذلك أمر بالنظر والاعتبار فقال: {انظروا إلى ثمره} أي: انظروا إلى ثمرة كل واحد من ذلك {إذا أثمر}، {و} انظروا إلى {يَنعِه}؛ إذا ينع، أي: طاب ونضج، والمعنى: انظروا إلى ثمره أول ما يخرج ضعيفًا لا منفعة، فيه، ثم ينتقل من طَور إلى طور، حتى يينع ويطيب.
{إنَّ في ذلكم لآياتٍ} دالة على وجود الحكيم ووحدانيته، فإن حدوث الأجناس المختلفة والأنواع المتفننة، ونقلها من حال إلى حال، لا يكون إلا بإحداث قادر، يعلم تفاصيلها، ويُرجَّح ما تقتضيه حكمته مما يمكن من أحوالها، ولا يعوقه عن فعله ند يعارضه، أو ضد يعانده، ولذلك عقبه بتوبيخ من أشرك فقال: {وجعلوا لله شركاء...} إلخ. قاله البيضاوي.
الإشارة: مَن كحَّل عينه بإثمد التوحيد، غرق الكائنات كلها في بحر التوحيد والتفريد، فكل ما يبرز لنا من المظاهر والمطالع ففيه نور من جمال الحضرة ساطع، ولذلك قال ابن الفارض رضي الله عنه:
عَينِي لِغَيرِ جَمَالِكُمُ لا تَنظرُ ** وَسِوَاكُمُ فِي خَطِرِي لا يَخطُرُ

وقال الششتري رضي الله عنه:
انظُر جَمالِي شاهدًا ** في كلِّ إنسان

كالماءِ يَجرِي نافِذًا ** في أُس الإغصان

يُسقَى بِماءٍ واحِد ** والزَّهرُ ألوان

وقال صاحبُ العَينية:
تَجلَّى حَبِيِبي فِي مَرَائِي جَمَالِهِ ** فَفي كُلِّ مَرئًى لِلحبِيبِ طَلاَئِعُ

فَلَمّا تَبَدى حُسنُهُ مُتَنَوّعًا ** تَسَمَّى بأسمَاءٍ فَهُون مَطَالِعُ

فما برز في عالم الشهادة هو من عالم الغيب على التحقيق، فرياض الملكوت فائضة من بحر الجبروت، (كان الله ولا شيء معه، وهو الآن على ما عليه كان)، ولا يعرف هذا ذوقًا إلا أهل العيان، الذين وحدوا الله في وجوده، وتخلصوا من الشرك جليه وخفيه.

.تفسير الآيات (100- 102):

{وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ (100) بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (101) ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102)}
قلت: {الجن}: مفعول أول لجعلوا، و{شركاء}: مفعول ثانٍ، وقدّم لاستعظام الإشراك، أو {شركاء}: مفعول أول، و{لله}: في موضع المفعول الثاني، و{الجن}: بدل من شركاء، وجملة {خلقهم}: حال، و{بديع}: خبر عن مضمر، أو متبدأ وجملة {أنَّى}: خبره، وهو من إضافة الصفة إلى مفعولها أي: مبدع السماوات، أو إلى فاعلها: أي: بديع سماواته، من بَدُعَ؛ إذا كان على نمط عجيب، وشكل فائق، وحُسن لائق.
يقول الحقّ جلّ جلاله: توبيخًا للمشركين: {وجعلوا لله شركاء} في عبادته، وهم {الجن} أي: الملائكة؛ لاجتنانهم أي: استتارهم، فعبدوهم واعتقدوا أنهم بنات الله، أو الجن حقيقة، وهم الشياطين؛ لأنهم أطاعوهم كما يُطاع الله تعالى، أو: عبدوا الأوثان بتسويلهم وتحريضهم، فقد أشركوا مع الله، و{و} الحال أن الله قد {خلقهم} أي: الجن أي: عبدوهم وهم مخلوقون، أو الضمير للمشركين، أي: عبدوا الجن، وقد عَلِمُوا أن الله قد خلقهم دون الجن لعجزه، وليس من يَخلُق كمَن لا يَخلُق.
{وخرقوا له} أي: اختلفوا وافترَوا، أو زوَّرُوا برأيهم الفاسد له {بنين} كالنصارى في المسيح، واليهود في عُزَير، {وبنات} كقول العرب في الملائكة: إنهم بنات الله تعالى الله عن قولهم قالوا ذلك {بغير علم} أي: بلا دليل ولا حجة، بل مجرد افتراء وكذب، {سبحانه وتعالى} أي: تنزيهًا له، وتعاظم قدره {عما يصفون} من أن له ولدًا أو شريكًا.
وكيف يكون له الولد أو الشريك، وهو {بديعُ السماوات والأرض}؟. أي: مبدعهما ومخترعهما بلا مثال يحتذيه، ولا قانون ينتحيه، والمعنى: أنه تعالى مُبدع لقطري العالم العلوي والسفلي بلا مادة: لأنه تعالى مُنزه عن الأفعال بالمادة. والوالد عنصر الولد، ومُنفصل بانتقال مادته عنه، فكيف يمكن أن يكون له ولد؟. ولذلك قال: {أَنى يكونُ له ولدٌ} أي: من أين، أو كيف يكون له ولد، {ولم تكن له صاحبة} يكون منها الولد، فإن انتفاء الصاحبة مستلزم لانتفاء الولد، ضرورة استحالة وجود الولد بلا والدة في العادة، وانتفاء الصاحبة مما لا ريب فيه، وكيف أيضًا يكون له ولد {و} قد {خلقَ كلَّ شيء}، فيكف يتصور أن يكون المخلوق ولدًا لخالقه؟ {وهو بكل شيء عليم} أي: أحاط بما من شأنه أن يعلُم كائنًا ما كان، فلا تخفى عليه خافية مما كان، ومما سيكون من الذوات والصفات، ومن جملتها: ما يجو عليه تعالى وما يستحيل كالولد والشريك.
{ذلكم} المنعوت بما ذكر من جلائل الصفات، هو {الله} المستحق للعبادة خاصة، {ربُكم} أي؛ مالك أمركم لا شريك له أصلاً، {خالقُ كل شيء}، مما كان وسيكون، ولا تكرار مع ما قبله؛ لأن المعتبر فيما تقدم خالقيته لِمَا كان فقط، كما تقتضيه صيغة الماضي، بخلاف الوصف يصلح للجميع، وإذا تقرر أنه خالق كل شيء {فاعبدوه}؛ فإن من كان خالقًا لكل شيء، جامعًا لهذه الصفات، هو المستحق للعبادة وحده، {وهو على كل شيء وكيل} أي: هو متولي أمور جميع عباده ومخلوقاته، التي أنتم من جملتها، فَكِلُوا أمركم إليه، وتوسلوا بعبادته إلى جميع مآربكم الدنيوية والأخروية، فإنه يكفيكم أمرها بقدرته وحفظه.
الإشارة: كل من خضع لمخلوق في نيل حظ دنيوي، إنسيًا أو جنيًا، أو أطاعه في معصية الخالق، فهو مشرك به مع ربه، {وَمَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا} [النساء: 116]، فلذلك عمل الصوفية على مجاهدة نفوسهم في مخالفة الهوى؛ لئلا تميل بهم إلى شيء من السِّوى، وتحرروا من رق الطمع، وتوجهوا بمهمتهم إلى الحق وحده، ليتبرأوا من أنواع الشرك كلها، جليها وخفيها. حفظنا الله بما حفظهم به. آمين.

.تفسير الآية رقم (103):

{لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103)}
يقول الحقّ جلّ جلاله: {لا تدركه الأبصار} أي: لا تحيط به، ولا تناله بحقيقته، وعن ابن عباس: (لا تدركه في الدنيا، وهو يُرى في الآخرة)، ومذهب الأشعرية: أن رؤية الله في الدنيا جائزة عقلاً، لأن موسى عليه السلام سألها، ولا يسأل موسى ما هو محال، وأحالته المعتزلة مُطلقًا، وتمسكوا بالآية، ولا دليل فيها؛ لأنه ليس الإدراك مطلق الرؤية، ولا النفي في الآية عامًا في الأوقات، فلعله مخصوص ببعض الحالات، ولا في الأشخاص؛ فإنه في قوة قولنا: لا كل بصر يدركه، مع أن النفي لا يوجب الامتناع. قاله البيضاوي.
ثم قال تعالى: {وهو يُدرك الأبصارَ} أي: يحيط علمه بها؛ إذ لا تخفى عليه خافية، {وهو اللطيف الخبير} فيدرك ما لا تدركه الأبصار، ويجوز أن يكون تعليلاً للحُكمَين السابقين على طريق اللفّ، أي: لا تدركه الأبصار لأنه اللطيف، وهو يدرك الأبصار لأنه الخبير، فيكون اللطيف مقابلاً للكثيف، لا يُدرك بالحاسة ولا ينطبع فيها. قاله البيضاوي وأبو السعود.
الإشارة: اعلم أن الحق جل جلاله قد تجلى لعباده في مظاهره الأكوان، لكنه لحكمته وقدرته، قد تجلى بين الضدين، بين الأنوار والأسرار، بين الحس والمعنى، بين مظهر الربوبية والب العبودية، فالأنوار ما ظهر من الأواني، والأسرار ما خَفِيَ من المعاني، فالحس ما يُدرك بحاسة البصر، والمعنى ما يُدرك بالبصيرة. فالحس رداء للمعنى، فمن فتح الله بصيرته استولى نورُ بصيرته على نور بصره، فأدرك المعاني خلف رقة الأواني، فلم تحجبه الأواني عن المعاني، بل تمتحق في حقه الأواني، ولا يرى حينئذٍ إلا المعاني. لذلك قال الحلاج، لما سئل عن المعرفة، قال: (استهلاك الحس في المعنى). فإذا فَنِيَ العبد عن شهود حِسِّه بشهود معناه، غاب وجوده في وجود معبوده، فشاهد الحقَّ بالحق. فالعارفون لَمَّا فنوا عن أنفسهم، لا يقع بصرهم إلا على المعاني، فهم يشاهدون الحق عيانًا. ولذلك قال شاعرُهم:
مُذَ عَرَفت الإله لَم أرَ غَيرًا ** وعذَا الغَيرُ عِنَدنَا مَمنُوعُ

وقال في الحِكَم: (ما حَجَبَكَ عن الحَقِّ وجُودُ مَوجُودٍ مَعَه؛ إذ لا شَيءَ مَعَهَ، وَإنَّما حَجَبك تَوّهُّمُ مَوُجُودٍ مَعَهُ).
وقوله تعالى: {لا تُدركه الأبصارُ} أي: الأبصار الحادثة، وإنما تدركه الأبصار القديمة في مقام الفناء. وقال الورتجبي: لا تدركه الأبصار، إلا بأبصار مستفادة من أبصار جلاله، وكيف يدركه الحدثان؟ ووجود الكون عند ظهور سطوات عظمته عدم. اهـ. أو لا تحيط به، إذ الإحاطة بكُنه الربوبية متعذرة. وعلى هذا حمل الآية في نوادر الأصول، قال: إدراك الهوية ممتنع، وإنما يقع التجلي بصفة من صفاته.
وقال ابن عبد الملك في شرح مشارق الصغاني، ناقلاً عن المشايخ: إنما يتجلى الله لأهل الجنة، ويريهم ذاته تعالى، في حجاب صفاته، لأنهم لا يطيقون أن يروا ذاته بلا حجابٍ مرَتبةٍ من مراتب الصفات.
وقال الورتجبي: التجلي لا يكون بكلية الذات، ولا بكلية الصفات، وإنما يكون على قدر الطاقات، فيستحيل أن يقال: تجلى كل الهوى لذرة واحدة، وإنما يتجلى لها على قدرها. اهـ.
وتتفاوت الناس في لذَّة النظر يوم القيامة على قدر معرفتهم في الدنيا، وتدوم لهم النظرة على قدر اسغراقهم هنا، فمن كان هنا محجوبًا لا يرى إلا الحس، كان يوم القيامة كذلك، إلا في وقت مخصوص، يُغيبه الحق تعالى عن حسه، فيشاهد معاني أسرار الربوبية في مظاهر أنوار صفاته. ومن كان هنا مفتوحًا عليه في شهود المعاني، كان يوم القيامة كذلك، لا تغيب عنه مشاهدة الحق ساعة.
قال الغزالي في كتاب الأربعين: إذا ارتفع الحجاب بعد الموت انقلبت المعرفة بعينها مشاهدة.
قلت: ومعنى كلامه: أن ما عرفه به هنا من التجليات، صار بعينه هناك مشاهدة؛ لأن المعنى هناك غالب على الحس، بخلاف دار الدنيا، الحس فيها غالب، إلاَّ لمن غاب عنه واستهلكه. ثم قال: ويكون لكل واحد على قدر معرفته، ولذلك تزيد لذة أولياء الله تعالى في النظر على لذة غيرهم، ولذلك يتجلى الله تعالى لأبي بكر خاصة، ويتجلى للناس عامة.
وقال في الإحياء: ولَمَّا كانت المعرفة على درجات متفاوتة كان التجلي على درجات متفاوتة، ثم ذكر حديث التجلي لأبي بكر المتقدم. ثم قال: فلا ينبغي أن يظن أن غير أبي بكر، ممن هو دونه، يجد من لذة النظر والمشاهدة ما يجده أبو بكر، بل لا يجده، إلا عُشرَ عُشرِه، إن كانت معرفته في الدنيا عشر عشره، ولما فَضَل الناسَ بسر وقر في صدره، فضل لا محالة بِتَجلًّ انفرد به.
وقال أيضًا: يتجلى الحق للعبد، تجليًا يكون انكشاف تجلَّيه، بالإضافة إلى ما علمه، كانكشاف تجلي المرئيات بالإضافة إلى ما تخيله أي: إلى ما وصفه له الواصف. ثم قال: وهذه المشاهدة والتجلي هي التي تسمى رؤية، ثم قال: المعرفة الحاصلة في الدنيا هي التي تستكمل، فتبلغ كمال الكشف والوضوح وتنقلب مشاهدة، ولا يكون بين المشاهدة في الآخرة والمعلوم في الدنيا اختلاف، إلا من حيث زيادة الكشف والوضوح. وقال أيضًا: وبحر المعرفة لا ساحل له، والإحاطة بكنه جلاله مُحال، وكلما كثرت المعرفة وقويت؛ كثر النعيم في الآخرة، وعظم، كما أنه كلما كثر البذر وحسن؛ كثر الزرع وحسن، ولا يمكن تحصيل هذا البذر إلا في الدنيا، ولا يزرع إلا في صعيد القلب، ولا حصاد إلا في الآخرة. اهـ.
قال شيخنا مولاي العربي رضي الله عنه: بل الرجال زرعوا اليوم وحصدوا اليوم، وفي تفسير الأقليشي لقوله: {اهْدِنَا الصِّرَاط المُسْتَقِيمَ} [الفاتحة: 6]: ليس لهذه الهداية ما دام العبد في الدنيا نهاية، حتى إذا حصل في جوار الجبار، ونظر إلى وجهه العظيم، كان حظه من النعيم بقدر ما هداه في الدنيا لصراطه المستقيم. اهـ. وقال في نوادر الأصول: في الحديث: «إنَّ مِن أهل الجنَّة من ينظرُ إلى الله عزَّ وجَلَّ غُدوَةً وعَشيًّا» ورُوِي عن معاذ أنه قال: «صِنفٌ مِن أهلِ الجَنَّة مَن يَنظُر إلى الله عزَّ وجَلَّ، لا يُستر الربُّ عنهم ولا يحتَجِبُ» ثم قال: وذُكر أن الرضوان آخر ما ينال أهلُ الجنة، ولا شيء أكبر منه، وكل عبد من أهل الجنة حظه من الرضوان هناك فيها على قدر جوده بنفسه على الله في الدنيا. اهـ.
وقوله تعالى: {وهو اللطيف الخبير}، قال الورتجبي: هو بلطف ذاته ممتنع عن مطالعة خلقه، مع علو شأن علمه وإحاطته بجميعهم، وجودًا وعدمًا، أي: وإنما يُرى بنوره، لا بالحواس الخفاشية، فإنها تضعف عن مقاومة شعاعه، وتنخنس عند انكشاف سبحاته. اهـ. على نقل الحاشية الفاسية. والله تعالى أعلم.